الفكر الإسلامي 

العمــــر لحظـــــــة

 

 

 

بقلم : الأستاذ أشرف شعبان أبو أحمد / جمهورية مصر العربية (*)

 

     العمر لحظة طالت أم قصرت فهي لحظة ، لحظة في عمر الدهر، لحظة نحصيها بالسنين ونعدها بالأشهر، ونحسب أيامها ولياليها، ونجمعها بالساعات والدقائق والثواني؛ ولكنها في النهاية لحظة، لا يعلم مداها أحد سوى الله عز وجل، ولا أحد غيره يعلم متى تبدأ ومتى وكيفما تنتهي. ولبيان مدى استشعارنا بقلة أيامنا على الأرض وقصر عمرنا فيها ، يقول الله تعالى في سورة الكهف آية 25 (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثـَلاَثـَمِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا) وهذا تقرير القرآن في مدة مكث أهل الكهف في الكهف ، وإن كانوا قد استقصروها ،كما حكى عنهم القرآن في آية 19 من سورة الكهف، قال تعالى: (وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَومًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) فانظر كيف مرت هذه السنون على أهل الكهف وكانت عندهم يوماً أو بعض يوم؟. ومثل ذلك حدث لعزير، قال تعالى في سورة البقرة آية 259: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِيْ هـٰـذِه اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثـُمَّ بَعَثَه قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ) فهذه المائةُ عام عند عزير المؤمن ،كانت يومًا أو بعض يوم. وقد أوردت السنة المطهرة ما يبين أن هذه الدنيا ما هي إلا ساعة. قال رسول الله (ما لي وللدنيا ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها) فهذا مثل الرسول (إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنةَ وأهل النار النارَ قال يا أهل الجنة! كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ «قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم» قال لنعم ما اتّجرتم في يوم أو بعض يوم، رحمتي ورضواني وجنتي امكثوا فيها خالدين مخلدين. ثم قال يا أهل النار كم لبثتم في الأرض عدد سنين ؟ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم، فيقول بئس ما اتّجرتم في يوم أوبعض يوم، ناري وسخطي امكثوا فيها خالدين مخلدين) وإلى ذلك تشير الآيات الكريمة في قوله تعالى (قـٰـلَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِيْنَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ قـٰـلَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيْلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) سورة المؤمنون الآيات 112-114 وإن الله سبحانه وتعالى ليعلم كم لبثوا ، ولكن السؤال هنا لاستصغار أمر الأرض ، واستقصار عمرهم فيها، وكذلك جاءت إجاباتهم بإحساسهم بقصر تلك الحياة وضآلتها، فقالوا: (لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْم) وقال تعالى في سورة الروم آية 55: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ) أي أنهم يقسمون بأنهم ما لبثوا غير ساعة واحدة في هذه الدنيا .

     وكذلك حال الفرد مناعندما يتذكر الأيام الخوالي من حياته بحلوها ومرها، مرحلة طفولته وهو يمرح ويلعب في كنف والديه، ثم مرحلة شبابه، مرحلة الصحة والقوة والحصول على الشهادات الدراسية، ثم التوظف والترقي في السلم الوظيفي والزواج والإنجاب، ثم مرحلة الشيخوخة واقتراب العمر من نهايته، عندما يتذكر كل هذه المراحل وما بها من أحداث صغرت أم كبرت يجدها مرت أمامه في لحظات قليلة ، ويستشعر وكأنها قد حدثت في زمن أقل بكثير عما استنفذته من عمره المديد ، ويستشعر أيضًا كما لو أنها وقعت في الأمس القريب وليس منذ عقود بعيدة مضت، ويستغرب مما وصل إليه حاله ، ويندهش كيف مرّ منه كل هذا العمر بهذه السرعة . حينئذ يتمنى الرجوع إلى سابق عهده ليعمل صالحاً ويصلح ما أفسده في حياته ، لا يتمنى العودةَ لجمع المال وغرس الأشجار وبناء البنيان ولا لأي متعة من متع الدنيا؛ ولكن ليعمل عملاً صالحاً ، قال تعالى في سورة المؤمنون آية 99: (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّيْ أَعْمَلُ صَالِحًا) وقال تعالى: (وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ المُجْرِمُوْنَ نَاكِسُوا رُءُوْسَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسِمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ) سورة السجدة آية 12. وسؤال الرجعة ليس مختصًا بالكافر، فقد يسألها المؤمن كما جاء في سورة المنافقين آية 10 و 11 قال تعالى: (وَأَنْفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُوْلَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِيْ إِلَى أَجَلٍ قَرِيْبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِيْنَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيْرٌ بِمَا تَعْمَلُوْن) وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله لجابر (ألا أبشرك يا جابر، وكان قد استشهد أبوه يوم أحد، فقال: بلى بشرك الله بالخير فقال (إن الله عز وجل قد أحيا أباك وأقعده بين يديه وقال تمنّ علي يا عبدي ما شئت أعطيكه فقال: يا رب ما عبدتك حق عبادتك أتمنى عليك أن تردّني إلى الدنيا فأقاتل مع نبيك فأقتل فيك مرة أخرى قال له إنه قد سبق مني أنك إليها لا ترجع)

     وحياة الفرد منا وإن طالت فهي محدودة، بينما حياة الإنسان في الأرض مستمرة حتى قيام الساعة. ومهما طال عمر الإنسان فالموت حتمًا نهايته.

     وقد قيل :

وما المرء إلا هالك وابن هالك

وذو نسب في الهالكين عـــريق

     وقد لبث نوح عليه الصلاة والسلام في قومه (ألف سنة إلا خمسين عام) سورة العنكبوت آية 14، ثم مات بعد ذلك ، ولبث أصحاب الكهف في كهفهم (ثلاثمائة سنين وزدادوا تسعًا) سورة الكهف آية 25، ثم ماتوا بعد ذلك ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك) رواه الترمذي . فالكل ميت لا محالة ، يقول الحق جل وعلا مخاطبًا رسول الله وكل من بلغ (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) سورة الزمر آية 30، لبيان حتمية الموت ووجوبه على الجميع ، ويقول سبحانه وتعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائقةُ الْمَوْتِ) سورة آل عمران آية 185، ويقول (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُوْنَ) سورة الأنبياء آية 34 ويقول سبحانه وتعالى (ثـُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ لَمَيِّتُوْنَ ثـُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُوْنَ) سورة المؤمنون الآيتان 15و 16، وكذلك في قوله تعالى: (كَيْفَ تَكْفُرُوْنَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثـُمَّ يُمِيْتُكُمْ ثـُمَّ يُحْيِيْكُمْ ثـُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُوْنَ) سورة البقرة آية 28، وغير ذلك من آيات القرآن الكريم التي تدل دلالةً قاطعةً على حتمية موت كل إنسان ، حتى الملائكة وغيرهم من مخلوقات الله الذين لا تدركهم حواسّنا مثل الجن والشياطين لابد أن يذوقوا الموت ، وقد وردت الآثار التي تبين كيف أن ملك الموت هو آخر من يموت من الملائكة ، ويفني كل من عليها (وَيَبْقَيٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذو الجلال والإكرام) سورة الرحمن آية 27، يبقي الملك الديان ، الحي القيوم مالك كل شيء وخالق كل شيء .

     وأخيرًا فها هي الأيام تنطوي بلمح البصر، وها هي لحظتنا تكاد تنقضي ، وها نحن نساق إلى ما آل إليه سالف الآباء والأجداد ؛ فليس إلى التأخير من سبيل ، فمن ذا الذي يترك بصمة على كتف الزمن ، وينقش اسمه بحروف من ذهب على صفحات التاريخ ، ليبقى راسخًا في أذهان الأمم كل الأمم ، مع ما ينتظره من حسن الجزاء في الآخرة، قال تعالى في سورة القصص آية 67: (فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَىٰ أَنْ يَكُوْنَ مِنَ الْمفلِحِيْنَ) وقال عز وجل في سورة النحل آية 97: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّه حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُوْنَ)

 

*  *  *

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالقعدة 1427هـ = ديسمبر 2006م ، العـدد : 11 ، السنـة : 30.

 



(*)         6 شارع محمد مسعود متفرع من شارع أحمد إسماعيل وابور المياه – باب شرق – الإسكندرية ، جمهورية مصر العربية.

           الهاتف : 4204166 ، فاكس : 4291451

           الجوّال : 0101284614

         Email: ashmon59@yahoo.com